احمد العتيبي
11-25-2010, 05:44 AM
الساسة العرب والمسؤولية الأخلاقية
د. علي محمد فخرو
في رائعة الروائي المسرحي الإغريقي سوفوكليس الشهيرة، عندما يكتشف البطل أوديب بأنه قتل أباه دون أن يعلم، وأنه تزوج أمٌه الملكة دون أن يدري، وبالتالي ارتكب في العرف البشري أفظع المحرًّمات، فانه يفقأ عينيه بيديه ويقضي بقية حياته هائماً على وجهه كإنسان مأساوي أعمى. النقطة الأساسية في هذه المسرحية الإغريقية الرائعة تكمن في الآتي: إن البطل أوديب لم يتعلًّل بأنه ارتكب المحرًّمات دون أن يدري، وبالتالي فهو ابن بريء قاده القدر الأعمى لفعل مافعل، ولكنًّه حمل المسؤولية كاملة وعاقب نفسه ذلك العقاب المفجع.
في الوطن العربي، عبر العديد من العقود الماضية، كم أوديب ارتكب المحرًّمات في السياسة الوطنية اوالقومية وتبيًّن له بعد فترة قصيرة فداحة وقبح ومأساة ما ارتكب بحقٍّ أمًّه/ أمته، ووالده / وطنه، لكنه بقي أوديباً مزيُّفاَ حقيراً عاجزاً عن تحًّمل مسؤولية ما ارتكب. الفشل في الإحساس بأهميًّة المسؤولية الأخلاقية الوجودية تجاه ارتكاب الحماقات هو ما مًّيز مسيرة أولئك المسؤولين العرب. لم يفقأ أحد منهم عينيه ليسيل منهما دم التوبة، بل لم تنزل حتى الدموع من عيونهم، وإنما مارسوا أساليب التُّبريرات الطفولية المخادعة للنفس وبقوا في مراكزهم يحيون حياتهم السياسية دون شعور بالذنب ودون حياء.
هل نذكر بأوديب الذي ارتكب المحًّرمات عندما وقف على مسرح الجريمة في القدس العربية الإسلامية المستباحة ليعلن أن لا حرب بعد الآن ضد الغاصب المجرم الصهيوني، فقلب بذلك الصراع العربي- الصهيوني من صراع قومي شامل للأمة كلُّها إلى صراعات مجزًّأة قطرية محليًّة عاجزة، ومع ذلك لم يرفًّ له جفن ولم يشعر بوخز الضمير قبل أن يموت في بدلته المطرًّزة بنياشين معارك أجهضها وحرب لم ينهها؟
هل نذًّكر بأود يب الذي اجتاح بلداً عربياً جاراً بجيوشه فتسبًّب في إدخال العرب في أتون الانقسامات والخلافات التي لم تخرج الآمة من آثارها حتى بعد مرور عشرين سنة، وهيأ الأجواء لتقبًّل ورجوع جيوش الاستعمار التي لاتزال تحتلُّ بلده وبلداناً عربية كثيرة أخرى؟ وحتى مجيء لحظة موته المأساوي المذلًّ لبلده وللأمة لم نسمع كلمات النًّدم.
هل نذكّر بأوديبي السودان الذين أضاعوا جنوبه، بأوديبي اليمن الذين أوصلوه إلى حافة حروب الانفصال والتشرذم وصراعات الإخوة، بأوديبي الصومال الذين احالوه إلى جثًّة هامدة تنهشها الوحوش الكاسرة، بأود يبي المغرب العربي الكبير الذين دمًّروا وحدة مغاربية واعدة بسبب قضية عبثيًّة لصحراء قاحلة، بأوديبي لبنان الذين وقًّعوا على وثيقة تأسيس محكمة فاسدة مسيَّسة أوجدت لممارسة الانتقام من هذه الجهة أو تلك فأدخلوا بلد المقاومة التاريخية العظيمة في جحيم الانزلاقات الطائفية؟ وغيرهم كثيرون، كثيرون!
لكن مأساة أوديبي العرب تصل إلـى قمًّة فاجعتها فـــي المشهد الفلسطيني. أوديبوا فلسطين، منذ مسرحية أوسلو وحتى يومنا هذا، الذين قلبوا منظمة التحرير من حركة تحرًّر وطنية لتحرير وطن مغتصب وشعب مشرَّد محتل محتقر ليجعلوها جحشة تركبها سلطة عاجزة، أما آن لهم أن يفقأوا عيونهم ويهيموا خارج عزبهم وقصورهم، وذلك بعد أن تبيًّن لهم أن المحرًّمات التي ارتكبوها، وهم لايدرون كما يدُّعون، قادت إلى جرائم بحقًّ مليون أب وإلى ارتكاب الفاحشة بحقٍّ مليون أم؟ هؤلاء، أما آن لهم، وقد بدأوا يدركون فاجعة العبث الذي مارسوه، وأنهم من حيث يدرون أولا يدرون قد أوصلوا القضية التحريرية المقدسة إلى ما نراه من مسرحية أميركية هزليًّة بالغة العهر والسُّخف تتلخُّص في طلب أميركي ذليل مثير للغثيان بأن يتفضًّل الكيان البربري الغاصب بأن يقبل، ولآخر مرًّة، بتوقيف بناء مستوطناته الاستعمارية لمدة ثلاثة شهور، وبثمن خيالي أين منه الثمن الذي دفعه فاوست الشهير للشيطان، أما آن لهم أن يدركوا أن ساعة الندم وصحوة الضمير قد أزفت؟
إذا كان هذا المشهد لا يقود أوديبي فلسطين ومن ساندهم إلى فقئ عيونهم، لتنزف دماً ودموعاً، ويتركون الساحة لغيرهم كي يعيد تنظيم حركة التحرير من جديد ويجيًّش كل فلسطيني، كل عربي، كل مسلم، كل إنسان شريف في العالم. إذا كان هذا المشهد لا يجعلهم يقذفون على الأرض بالخنجر الملطًّخ بدم آبائهم وبالابتعاد عن فراش الفحش الذي ناموا فيه طويلاً، فان الشعب الفلسطيني مطالب بأن يبادر هو ليثأر ممًّن استباحوا عفًّة قضيته وكرامته وحقوقه.
فاجعة الحياة السياسية العربية هي أن كل أوديب في مسرحها يرتكب جرائم القتل والفواحش ومع ذلك تسير وتيرة تلك الحياة وكأن لا جرم قد حدث أو يحدث. فلا أوديب يصحو ضميره وينتقم من نفسه لضحاياه ولا ضحاياه يدركون ما يحدث فيوقفونه عند حده. كلتا الجهتين تذكران بالبطل التراجيدي الشكسبيري هاملت الذي تكمن مأساته في تردده المريض في أن يتخذ قراراً لحلً إشكالات حياته. التردُّد في هذه الحالة هو صنو الجبن. والجبن لا ينتعش ويقوى إلاُ أثناء غفوة الضمير.
مقالات اخرى للكاتب (http://www.annaharkw.com/annahar/AuthorArticles.aspx?id=2717)
د. علي محمد فخرو
في رائعة الروائي المسرحي الإغريقي سوفوكليس الشهيرة، عندما يكتشف البطل أوديب بأنه قتل أباه دون أن يعلم، وأنه تزوج أمٌه الملكة دون أن يدري، وبالتالي ارتكب في العرف البشري أفظع المحرًّمات، فانه يفقأ عينيه بيديه ويقضي بقية حياته هائماً على وجهه كإنسان مأساوي أعمى. النقطة الأساسية في هذه المسرحية الإغريقية الرائعة تكمن في الآتي: إن البطل أوديب لم يتعلًّل بأنه ارتكب المحرًّمات دون أن يدري، وبالتالي فهو ابن بريء قاده القدر الأعمى لفعل مافعل، ولكنًّه حمل المسؤولية كاملة وعاقب نفسه ذلك العقاب المفجع.
في الوطن العربي، عبر العديد من العقود الماضية، كم أوديب ارتكب المحرًّمات في السياسة الوطنية اوالقومية وتبيًّن له بعد فترة قصيرة فداحة وقبح ومأساة ما ارتكب بحقٍّ أمًّه/ أمته، ووالده / وطنه، لكنه بقي أوديباً مزيُّفاَ حقيراً عاجزاً عن تحًّمل مسؤولية ما ارتكب. الفشل في الإحساس بأهميًّة المسؤولية الأخلاقية الوجودية تجاه ارتكاب الحماقات هو ما مًّيز مسيرة أولئك المسؤولين العرب. لم يفقأ أحد منهم عينيه ليسيل منهما دم التوبة، بل لم تنزل حتى الدموع من عيونهم، وإنما مارسوا أساليب التُّبريرات الطفولية المخادعة للنفس وبقوا في مراكزهم يحيون حياتهم السياسية دون شعور بالذنب ودون حياء.
هل نذكر بأوديب الذي ارتكب المحًّرمات عندما وقف على مسرح الجريمة في القدس العربية الإسلامية المستباحة ليعلن أن لا حرب بعد الآن ضد الغاصب المجرم الصهيوني، فقلب بذلك الصراع العربي- الصهيوني من صراع قومي شامل للأمة كلُّها إلى صراعات مجزًّأة قطرية محليًّة عاجزة، ومع ذلك لم يرفًّ له جفن ولم يشعر بوخز الضمير قبل أن يموت في بدلته المطرًّزة بنياشين معارك أجهضها وحرب لم ينهها؟
هل نذًّكر بأود يب الذي اجتاح بلداً عربياً جاراً بجيوشه فتسبًّب في إدخال العرب في أتون الانقسامات والخلافات التي لم تخرج الآمة من آثارها حتى بعد مرور عشرين سنة، وهيأ الأجواء لتقبًّل ورجوع جيوش الاستعمار التي لاتزال تحتلُّ بلده وبلداناً عربية كثيرة أخرى؟ وحتى مجيء لحظة موته المأساوي المذلًّ لبلده وللأمة لم نسمع كلمات النًّدم.
هل نذكّر بأوديبي السودان الذين أضاعوا جنوبه، بأوديبي اليمن الذين أوصلوه إلى حافة حروب الانفصال والتشرذم وصراعات الإخوة، بأوديبي الصومال الذين احالوه إلى جثًّة هامدة تنهشها الوحوش الكاسرة، بأود يبي المغرب العربي الكبير الذين دمًّروا وحدة مغاربية واعدة بسبب قضية عبثيًّة لصحراء قاحلة، بأوديبي لبنان الذين وقًّعوا على وثيقة تأسيس محكمة فاسدة مسيَّسة أوجدت لممارسة الانتقام من هذه الجهة أو تلك فأدخلوا بلد المقاومة التاريخية العظيمة في جحيم الانزلاقات الطائفية؟ وغيرهم كثيرون، كثيرون!
لكن مأساة أوديبي العرب تصل إلـى قمًّة فاجعتها فـــي المشهد الفلسطيني. أوديبوا فلسطين، منذ مسرحية أوسلو وحتى يومنا هذا، الذين قلبوا منظمة التحرير من حركة تحرًّر وطنية لتحرير وطن مغتصب وشعب مشرَّد محتل محتقر ليجعلوها جحشة تركبها سلطة عاجزة، أما آن لهم أن يفقأوا عيونهم ويهيموا خارج عزبهم وقصورهم، وذلك بعد أن تبيًّن لهم أن المحرًّمات التي ارتكبوها، وهم لايدرون كما يدُّعون، قادت إلى جرائم بحقًّ مليون أب وإلى ارتكاب الفاحشة بحقٍّ مليون أم؟ هؤلاء، أما آن لهم، وقد بدأوا يدركون فاجعة العبث الذي مارسوه، وأنهم من حيث يدرون أولا يدرون قد أوصلوا القضية التحريرية المقدسة إلى ما نراه من مسرحية أميركية هزليًّة بالغة العهر والسُّخف تتلخُّص في طلب أميركي ذليل مثير للغثيان بأن يتفضًّل الكيان البربري الغاصب بأن يقبل، ولآخر مرًّة، بتوقيف بناء مستوطناته الاستعمارية لمدة ثلاثة شهور، وبثمن خيالي أين منه الثمن الذي دفعه فاوست الشهير للشيطان، أما آن لهم أن يدركوا أن ساعة الندم وصحوة الضمير قد أزفت؟
إذا كان هذا المشهد لا يقود أوديبي فلسطين ومن ساندهم إلى فقئ عيونهم، لتنزف دماً ودموعاً، ويتركون الساحة لغيرهم كي يعيد تنظيم حركة التحرير من جديد ويجيًّش كل فلسطيني، كل عربي، كل مسلم، كل إنسان شريف في العالم. إذا كان هذا المشهد لا يجعلهم يقذفون على الأرض بالخنجر الملطًّخ بدم آبائهم وبالابتعاد عن فراش الفحش الذي ناموا فيه طويلاً، فان الشعب الفلسطيني مطالب بأن يبادر هو ليثأر ممًّن استباحوا عفًّة قضيته وكرامته وحقوقه.
فاجعة الحياة السياسية العربية هي أن كل أوديب في مسرحها يرتكب جرائم القتل والفواحش ومع ذلك تسير وتيرة تلك الحياة وكأن لا جرم قد حدث أو يحدث. فلا أوديب يصحو ضميره وينتقم من نفسه لضحاياه ولا ضحاياه يدركون ما يحدث فيوقفونه عند حده. كلتا الجهتين تذكران بالبطل التراجيدي الشكسبيري هاملت الذي تكمن مأساته في تردده المريض في أن يتخذ قراراً لحلً إشكالات حياته. التردُّد في هذه الحالة هو صنو الجبن. والجبن لا ينتعش ويقوى إلاُ أثناء غفوة الضمير.
مقالات اخرى للكاتب (http://www.annaharkw.com/annahar/AuthorArticles.aspx?id=2717)