سهم الحق
01-06-2008, 09:10 AM
أحلام التتار
المغول والتتار قبائل موطنهم الأصلى منغوليا (شمال صحراء غوبى)، وكانت هذه القبائل تقضى أوقاتها فى النزاعات القبلية وفى البحث عن منابت الشعب ودانت بالوثنية التى تعرف باسم الشامانية.
واستطاع تيموجين بسوكاى الذى ولد فى منغوليا عام 549هـ – 1155م أن يوحد هذه القبائل عام 603هـ/ 1206م
ووضع لهم دستوراً اجتماعيا حربيا مختصرا عرف باسم الياسة الكبرى أو الياسق بالغ الشدة والعنف للطاعة فيه أكبر نصيب فكانوا أعظم الأمم طاعة لسلاطينهم، دون معرفة معانى الشفقة أو الرحمة، وبعد أن وحدهم لقب نفسه "جنكيز خان" أى أعظم الملوك.
وكان التتار يعتمدون فى طعامهم أساساً على صيد الحيوانات وعندما كانوا يقتلون أى شئ (كالآيائل) مثلا كانوا يلتهمون الحيوان كله نيئاً ،بما فى ذلك الأجزاء الكريهة منه،
وكان الحصان هو حيوانهم الرئيسى، ولبن الفرس هو طعامهم المفضل عندما يتم تخمير هذا اللبن، فإنه يتحول إلى مسكر قوى وفى الحفلات كانوا يشربون من جماجم قتلى الأعداء.
واندفع بهم إلى الصين واستولى على بكين عام 612هـ فاستولى بذلك على مزيد من الكنوز والنفائس، وتعلم المغول استعمال البارود، ثم قضى على دولة الخطا السوداء (قره خطى) التركية المتاخمة لبلاد الصين 615هـ
فأصبح يطرق أبواب العالم الإسلامى ويتحداه وكان هذا التحدى شريكا لبعض الوقت للغزو الصليبى على عالم الإسلام، وقد حمل بهمجية وبربرية ووحشية على العالم الإسلامى
وكانت حملاته وحملات أخلافه غاشمة كمد البحر أو الطوفان الذى كاد أن يبدد الحضارة الإسلامية.
اصطدم جنكيز خان بالدولة الإسلامية الخوارزمية – وكانت بمثابة السور الفولاذى المنيع الذى يحمى الجبهة الإسلامية من جهة المشرق تمتد من العراق العجمى غربا إلى نهر السند شرقا، ومن شمال بحر قزوين وآرال شمالا إلى الخليج العربى والمحيط الهندى جنوبا شاملة أذر بيجان والعراق العجمى وفارس وكرمان وسجستان وخراسان وأفغانستان والبامير والصفد وما وراء النهر.
وكان على رأس هذه الدولة جين بدأت تطرقها المطارق المغولية السلطان علاء الدين محمد خزارزم شاه.
أوضاع مركز الخلافة والعالم العربى فى هذا العصر
توزعت المملكة الأيوبية بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبى فى سنة 589هـ بين أولاده وأفراد أسرته، ولكن هؤلاء لم يستخدموا مؤهلاتهم وكفاءاتهم فى أداء هذه الأمانة التى آلت إليهم، شأن كثير من أولاد الولاة، وأولى العزم من الحكام،
فقد ظل الصراع قائماً بينهم إلى مدة طويلة، حتى أن بعضهم لم يتلكأ فى الاستعانة بالصليبين بتدبير المؤامرة ضد إخوانهم وأصحابهم، وقد أنتج هذا الوضع الشاذ اضطراباً سياسياً، وانحلالاً خلقياً، وفوضى فى سائر الولايات التابعة لهذه المملكة، وكان الناس يعيشون فى جو من القلق والخوف.
هذا وكانت الغارة الصليبية الأفرنجية تتعاقب على تلك الحواضر الإسلامية، التى كان السلطان صلاح الدين قد استردها بعد تضحيات، وقد فشت أمراض وأوبئة ومجاعات شديدة نتيجة لهذا الانحطاط الخلقى، والانحراف الإدارى.
وفى سنة 597هـ حدثت مجاعة فى مصر فما فاض فيها النيل، وتزلزلت أرض مصر بصراعات الملكين العادل والأفضل، حتى اشتد الغلاء بأرض مصر، فهلك خلق كثير جداً من الفقراء والأغنياء،
ثم أعقبه فناء عظيم حتى حكى الشيخ أبو شامة فى الذيل: "إن العادل كفن من ماله فى مدة شهر من هذه السنة نحو من مئتى بمصر، وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير، يشوى الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا فى الناس جداً حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتان غلب القوى الضعيف فذبحه وأكله.
[البداية والنهاية ج 13 ص 26]
واستمرت هذه الحالة وفقاً لسنة الله فى الأرض، وظلت الإنذارات السماوية، والأحداث الجسام تحذر الناس، وكانت كفيلة بأن تبعث الناس على التوبة والإنابة إلى الله، وإصلاح أحوالهم
قال تعالى ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
"وحدثت فى نفس هذه السنة زلزلة عظيمة
ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة والروم والعراق.. وأخربت محال كثيرة من طرابلس ونابلس ولم يبقى بنابلس سوى حارة السامراء، ومات بها وبقراها ثلاثون ألفاً تحت الردم..
ومات أمم لا يحصون ولا يعدون ، حتى قال صاحب "مرآة الزمان" أنه مات فى هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها. [أيضاً ص 27] والله أعلم.
هذا وقد تفاقم الشر فى مركز الخلافة (دار الإسلام بغداد)، وسيطرت عليه مظاهر الأبهة الملوكية والسلطان الأعمى، وتغلغل نفوذ الخدم والحشم فى قصور الخلفاء، وبلغت الثروة والمدينة ذروتها، ولا يمكن أن نتصور ما كان يمتلكه الخدم والمماليك الذين كانوا لدى الخلفاء من المال والعقار.
ويكفى أن نذكر على سبيل المثال، أن علاء الدين الطبرسى الظاهرى، وهو ممن اشتراهم الخليفة الظاهر، كان يحصل له من أملاكه التى استجدها نحو ثلاث مائة ألف دينار سنوياً، وكانت له دار لم تكن ببغداد مثلها،
وكذلك مجاهد الدين أيبك الدويدار المستنصرى، وقد ملك جزيل الأموال من العين، والرقيق ، والدواب، والعقار، والبساتين والضياع ويتعذر وصف ما أنفقه من قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، والجواهر التى جهز بها أولاده وبناته فى ليالى الزفاف،
كما أن الفراش الصلاح عبد الغنى بن فاخر ، وكان شيخ الفراشين بدار الخلافة، كان يعيش مع خلوه من العلم عيشة الملوك، بينما كان مدرسو المدرسة المستنصرية فى هذا العصر وهم من كبار علماء بغداد بوصفهم يدرسون فى أكبر جامعة إسلامية فيها، لا يتقاضى الواحد منهم أكثر من 12 دينار شهرياً.
تموت الأسد جوعا فى البرايا*** ولحم الضأن يرمى للكلاب.
وذو جهل ينام على حرير*** وذو علم ينام على التراب.
وبجانب ذلك نجد أن 4000دينار ينثرها خادم للشرابى على مجد الدين أيبك المستنصرى، عند زواجه من ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل،
وأن 3000دينار أعطاها الشرابى للأشخاص الثلاثة الذين أتوا بطائر من الموصل.
ولكى ندرك مدى نفوذ هذه المظاهر الكاذبة، والتظاهر بالفخفخة والأبهة الملوكية يجب أن نعرف أن المواكب التى كانت تخرج فى مناسبات العيد والتتويج كانت تشغل الناس،
حتى أنهم كانوا يتناسون أنفسهم، ويتشاغلون عن أداء الصلوات، ونستطيع أن نقيس ذلك بالموكب الملكى، الذى خرج يوم عيد الفطر سنة 640هـ استمر إلى الليل، وصلى الناس صلاة العيد قبل نصف الليل قضاء. [الحوادث الجامعة أخبار سنة 640هـ].
وذكر فى المسجد المسبوك" أن العساكر فى عاشر ذى الحجة سنة 644هـ خرجوا إلى ظاهرة البلد، وصلوا صلاة العيد وقت غروب الشمس.
جرح الحسام له آس يطببه ***وما لجرح قناة الدين من آس .
تميز هذا العصر بكثرة المصادرات، ونفش الرشوة وعزل كبار الموظفين وإلقاء القبض عليهم، وبيع ممتلكاتهم وتفاقم أمر الباطنية والشطار والعيارين، واشتداد النزاع الطائفى والتفكك الخلقى، والانصراف إلى الملاهى والقيان والتكاثر فى الأموال.
مساوىء لو قسمن على الغوانى ***لما أمهرهن إلا بالطلاق.
وفى نفس هذه الأيام كان التتر يعيثون بكرامة فارس وتركستان، ويأتون عليها من كل جانب وكانت أبصارهم شاخصة إلى بغداد، أكبر مركز إسلامى فى ذلك العهد، يتحدث المؤرخ الشهير ابن كثير عن استهلال سنة 626هـ بما يأتى:
استهلت هذه السنة وملوك بنى أيوب مفترقون، مختلفون" ، وظلت بغداد دار الخلافة الإسلامية مركز للاضطراب والفساد،
ولم يتمكن الناس من السفر للحج، ولا استطاع الخليفة تغيير كسوة الكعبة الشريفة، التى قد جرت عادة خلفاء الإسلام من قديم بتغييرها، بين 640هـ و643هـ، وبقيت جدران الكعبة عارية عن الكسوة إلى 21يوماً، فتشاءم بها الناس.
فى سنة 575هـ جلس الخليفة الناصر لدين الله على عرش الخلافة، وطالت أيام خلافته إلى أكثر من 46سنة، وهى مدة طويلة لم تتيسر لأحد من الخلفاء العباسيين، ولكنها أظلم عهد فى تاريخ الخلافة العباسية، وقد ذمة المؤرخون وتناولوا أعماله وأخلاقه بالنقد اللاذع
زحف التتار نحو العالم الإسلامى
وقد ابتدأ التتار ببخارى وأتوا عليها من كل جانب، فدمروها حتى عادت كومة من تراب، ثم توجهوا إلى سمرقند وأحرقوها وأبادوا أهلها، ولقيت نفس المصير المدن الشهيرة للعالم الإسلامى كهمدان وزنجان، وقزوين، ومرو، ونيسابور،
وخوارزم شاه الذى كان يعتبر الملك الوحيد للعالم الإسلامى وأقوى الملوك فى عصره، فكان يعيش فى خوف وهلع، وتنقل وارتحال، يبحث عنه التتار ويتعقبونه حتى توفى فى جزيرة مجهولة. كان خوازم شاه قد ضم ولايات فارس وتركستان المسلمة ودولها المستقلة إلى مملكته، فلما هزمه التتار لم يكن هناك من يقاومهم فى هذا بالجزء الشرقى
توفى جنكيز خان عام 624هـ/ 1227م فقام حفيدة هولاكو بإتمام دوره فى بلاد الإسلام فتحالف مع الصليبين وكانت زوجته نصرانية (نسطورية)، وأعلن الخاقان الأعظم أنه إنما أرسل هولاكو إلى غرب آسيا ليقضى على الخلافة العباسية ويعيد بيت المقدس بعد أن كان قد حررها صلاح الدين عام 583هـ،
فاعتبر هولاكو نفسه محررا للنصارى من المسلمين، وأرسل إلى الصليبين قبل أن يبدأ غزوه المسلمين يقول: "لدينا أعداداً كبيرة من المسيحيين من العبودية ومن الضرائب التى فرضها عليهم المسلمون ومعلنين ضرورة معاملة المسيحيين معاملة تليق بهم، فلا يعتدى عليهم ولا على تجارتهم أحد ونحن نصرح بأننا سنعيد بناء الكنائس التى خربها المسلمون"' ..
رعب التتار
دخل رعب التتار فى قلوب المسلمين إلا من رحم الله، إلى حد أن أحد التتار دخل بعض الأحيان فى سكة من سكك مدينة حيث وجد مائة رجل من المسلمين، فقتلهم كلهم وأتى على آخرهم دون أن يتجرأ أحد منهم لمقاومته.
وذات مرة دخلت امرأة تتارية بيتا متزينة بزى الرجال، وقتلت جميع أفراد الأسرة، وقد عرف أحد المسجونين الذى كان معها أنها امرأة فقتلها، وقد حدث بعض الأحيان أن تاتارياً أسر مسلماً وقال له ضع رأسك على هذا الحجر حتى آتى بالخنجر فأذبحك ، وخضع له المسلم ولم يسعه أن يبرح مكانه ذاك، ثم أتى التتارى بالخنجر من المدينة وذبحه به.
استولى الرعب والخوف على العالم الإسلامى من أقصاه إلى أقصاه، وغلب على الناس اليأس والتشاؤم، فكانوا يعتبرون التتار بلاء سماويا، ومقاومتهم مستحيلة، وانهزامهم فوق القياس، حتى سار المثل.
" إذا قيل لك أن التتار انهزموا فلا تصدق" [ص18 ، ص19 غارة التتار على العالم الإسلامى]
لم يكن فى وسع الإنسان أن يسد سيل المغول، فقد تغلبوا على جميع أخطار الصحارى والغابات، ولم يقف فى وجههم أى شئ من الجبال والبحار، وشدائد الطقوس والفصول، والقحط والأوبئة، ولم يكونوا يخافون أى خطر ولا مانع، ولا هناك قلعة ترد بأسهم .
المغول والتتار قبائل موطنهم الأصلى منغوليا (شمال صحراء غوبى)، وكانت هذه القبائل تقضى أوقاتها فى النزاعات القبلية وفى البحث عن منابت الشعب ودانت بالوثنية التى تعرف باسم الشامانية.
واستطاع تيموجين بسوكاى الذى ولد فى منغوليا عام 549هـ – 1155م أن يوحد هذه القبائل عام 603هـ/ 1206م
ووضع لهم دستوراً اجتماعيا حربيا مختصرا عرف باسم الياسة الكبرى أو الياسق بالغ الشدة والعنف للطاعة فيه أكبر نصيب فكانوا أعظم الأمم طاعة لسلاطينهم، دون معرفة معانى الشفقة أو الرحمة، وبعد أن وحدهم لقب نفسه "جنكيز خان" أى أعظم الملوك.
وكان التتار يعتمدون فى طعامهم أساساً على صيد الحيوانات وعندما كانوا يقتلون أى شئ (كالآيائل) مثلا كانوا يلتهمون الحيوان كله نيئاً ،بما فى ذلك الأجزاء الكريهة منه،
وكان الحصان هو حيوانهم الرئيسى، ولبن الفرس هو طعامهم المفضل عندما يتم تخمير هذا اللبن، فإنه يتحول إلى مسكر قوى وفى الحفلات كانوا يشربون من جماجم قتلى الأعداء.
واندفع بهم إلى الصين واستولى على بكين عام 612هـ فاستولى بذلك على مزيد من الكنوز والنفائس، وتعلم المغول استعمال البارود، ثم قضى على دولة الخطا السوداء (قره خطى) التركية المتاخمة لبلاد الصين 615هـ
فأصبح يطرق أبواب العالم الإسلامى ويتحداه وكان هذا التحدى شريكا لبعض الوقت للغزو الصليبى على عالم الإسلام، وقد حمل بهمجية وبربرية ووحشية على العالم الإسلامى
وكانت حملاته وحملات أخلافه غاشمة كمد البحر أو الطوفان الذى كاد أن يبدد الحضارة الإسلامية.
اصطدم جنكيز خان بالدولة الإسلامية الخوارزمية – وكانت بمثابة السور الفولاذى المنيع الذى يحمى الجبهة الإسلامية من جهة المشرق تمتد من العراق العجمى غربا إلى نهر السند شرقا، ومن شمال بحر قزوين وآرال شمالا إلى الخليج العربى والمحيط الهندى جنوبا شاملة أذر بيجان والعراق العجمى وفارس وكرمان وسجستان وخراسان وأفغانستان والبامير والصفد وما وراء النهر.
وكان على رأس هذه الدولة جين بدأت تطرقها المطارق المغولية السلطان علاء الدين محمد خزارزم شاه.
أوضاع مركز الخلافة والعالم العربى فى هذا العصر
توزعت المملكة الأيوبية بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبى فى سنة 589هـ بين أولاده وأفراد أسرته، ولكن هؤلاء لم يستخدموا مؤهلاتهم وكفاءاتهم فى أداء هذه الأمانة التى آلت إليهم، شأن كثير من أولاد الولاة، وأولى العزم من الحكام،
فقد ظل الصراع قائماً بينهم إلى مدة طويلة، حتى أن بعضهم لم يتلكأ فى الاستعانة بالصليبين بتدبير المؤامرة ضد إخوانهم وأصحابهم، وقد أنتج هذا الوضع الشاذ اضطراباً سياسياً، وانحلالاً خلقياً، وفوضى فى سائر الولايات التابعة لهذه المملكة، وكان الناس يعيشون فى جو من القلق والخوف.
هذا وكانت الغارة الصليبية الأفرنجية تتعاقب على تلك الحواضر الإسلامية، التى كان السلطان صلاح الدين قد استردها بعد تضحيات، وقد فشت أمراض وأوبئة ومجاعات شديدة نتيجة لهذا الانحطاط الخلقى، والانحراف الإدارى.
وفى سنة 597هـ حدثت مجاعة فى مصر فما فاض فيها النيل، وتزلزلت أرض مصر بصراعات الملكين العادل والأفضل، حتى اشتد الغلاء بأرض مصر، فهلك خلق كثير جداً من الفقراء والأغنياء،
ثم أعقبه فناء عظيم حتى حكى الشيخ أبو شامة فى الذيل: "إن العادل كفن من ماله فى مدة شهر من هذه السنة نحو من مئتى بمصر، وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير، يشوى الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا فى الناس جداً حتى صار لا ينكر بينهم، فلما فرغت الأطفال والميتان غلب القوى الضعيف فذبحه وأكله.
[البداية والنهاية ج 13 ص 26]
واستمرت هذه الحالة وفقاً لسنة الله فى الأرض، وظلت الإنذارات السماوية، والأحداث الجسام تحذر الناس، وكانت كفيلة بأن تبعث الناس على التوبة والإنابة إلى الله، وإصلاح أحوالهم
قال تعالى ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
"وحدثت فى نفس هذه السنة زلزلة عظيمة
ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة والروم والعراق.. وأخربت محال كثيرة من طرابلس ونابلس ولم يبقى بنابلس سوى حارة السامراء، ومات بها وبقراها ثلاثون ألفاً تحت الردم..
ومات أمم لا يحصون ولا يعدون ، حتى قال صاحب "مرآة الزمان" أنه مات فى هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها. [أيضاً ص 27] والله أعلم.
هذا وقد تفاقم الشر فى مركز الخلافة (دار الإسلام بغداد)، وسيطرت عليه مظاهر الأبهة الملوكية والسلطان الأعمى، وتغلغل نفوذ الخدم والحشم فى قصور الخلفاء، وبلغت الثروة والمدينة ذروتها، ولا يمكن أن نتصور ما كان يمتلكه الخدم والمماليك الذين كانوا لدى الخلفاء من المال والعقار.
ويكفى أن نذكر على سبيل المثال، أن علاء الدين الطبرسى الظاهرى، وهو ممن اشتراهم الخليفة الظاهر، كان يحصل له من أملاكه التى استجدها نحو ثلاث مائة ألف دينار سنوياً، وكانت له دار لم تكن ببغداد مثلها،
وكذلك مجاهد الدين أيبك الدويدار المستنصرى، وقد ملك جزيل الأموال من العين، والرقيق ، والدواب، والعقار، والبساتين والضياع ويتعذر وصف ما أنفقه من قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، والجواهر التى جهز بها أولاده وبناته فى ليالى الزفاف،
كما أن الفراش الصلاح عبد الغنى بن فاخر ، وكان شيخ الفراشين بدار الخلافة، كان يعيش مع خلوه من العلم عيشة الملوك، بينما كان مدرسو المدرسة المستنصرية فى هذا العصر وهم من كبار علماء بغداد بوصفهم يدرسون فى أكبر جامعة إسلامية فيها، لا يتقاضى الواحد منهم أكثر من 12 دينار شهرياً.
تموت الأسد جوعا فى البرايا*** ولحم الضأن يرمى للكلاب.
وذو جهل ينام على حرير*** وذو علم ينام على التراب.
وبجانب ذلك نجد أن 4000دينار ينثرها خادم للشرابى على مجد الدين أيبك المستنصرى، عند زواجه من ابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل،
وأن 3000دينار أعطاها الشرابى للأشخاص الثلاثة الذين أتوا بطائر من الموصل.
ولكى ندرك مدى نفوذ هذه المظاهر الكاذبة، والتظاهر بالفخفخة والأبهة الملوكية يجب أن نعرف أن المواكب التى كانت تخرج فى مناسبات العيد والتتويج كانت تشغل الناس،
حتى أنهم كانوا يتناسون أنفسهم، ويتشاغلون عن أداء الصلوات، ونستطيع أن نقيس ذلك بالموكب الملكى، الذى خرج يوم عيد الفطر سنة 640هـ استمر إلى الليل، وصلى الناس صلاة العيد قبل نصف الليل قضاء. [الحوادث الجامعة أخبار سنة 640هـ].
وذكر فى المسجد المسبوك" أن العساكر فى عاشر ذى الحجة سنة 644هـ خرجوا إلى ظاهرة البلد، وصلوا صلاة العيد وقت غروب الشمس.
جرح الحسام له آس يطببه ***وما لجرح قناة الدين من آس .
تميز هذا العصر بكثرة المصادرات، ونفش الرشوة وعزل كبار الموظفين وإلقاء القبض عليهم، وبيع ممتلكاتهم وتفاقم أمر الباطنية والشطار والعيارين، واشتداد النزاع الطائفى والتفكك الخلقى، والانصراف إلى الملاهى والقيان والتكاثر فى الأموال.
مساوىء لو قسمن على الغوانى ***لما أمهرهن إلا بالطلاق.
وفى نفس هذه الأيام كان التتر يعيثون بكرامة فارس وتركستان، ويأتون عليها من كل جانب وكانت أبصارهم شاخصة إلى بغداد، أكبر مركز إسلامى فى ذلك العهد، يتحدث المؤرخ الشهير ابن كثير عن استهلال سنة 626هـ بما يأتى:
استهلت هذه السنة وملوك بنى أيوب مفترقون، مختلفون" ، وظلت بغداد دار الخلافة الإسلامية مركز للاضطراب والفساد،
ولم يتمكن الناس من السفر للحج، ولا استطاع الخليفة تغيير كسوة الكعبة الشريفة، التى قد جرت عادة خلفاء الإسلام من قديم بتغييرها، بين 640هـ و643هـ، وبقيت جدران الكعبة عارية عن الكسوة إلى 21يوماً، فتشاءم بها الناس.
فى سنة 575هـ جلس الخليفة الناصر لدين الله على عرش الخلافة، وطالت أيام خلافته إلى أكثر من 46سنة، وهى مدة طويلة لم تتيسر لأحد من الخلفاء العباسيين، ولكنها أظلم عهد فى تاريخ الخلافة العباسية، وقد ذمة المؤرخون وتناولوا أعماله وأخلاقه بالنقد اللاذع
زحف التتار نحو العالم الإسلامى
وقد ابتدأ التتار ببخارى وأتوا عليها من كل جانب، فدمروها حتى عادت كومة من تراب، ثم توجهوا إلى سمرقند وأحرقوها وأبادوا أهلها، ولقيت نفس المصير المدن الشهيرة للعالم الإسلامى كهمدان وزنجان، وقزوين، ومرو، ونيسابور،
وخوارزم شاه الذى كان يعتبر الملك الوحيد للعالم الإسلامى وأقوى الملوك فى عصره، فكان يعيش فى خوف وهلع، وتنقل وارتحال، يبحث عنه التتار ويتعقبونه حتى توفى فى جزيرة مجهولة. كان خوازم شاه قد ضم ولايات فارس وتركستان المسلمة ودولها المستقلة إلى مملكته، فلما هزمه التتار لم يكن هناك من يقاومهم فى هذا بالجزء الشرقى
توفى جنكيز خان عام 624هـ/ 1227م فقام حفيدة هولاكو بإتمام دوره فى بلاد الإسلام فتحالف مع الصليبين وكانت زوجته نصرانية (نسطورية)، وأعلن الخاقان الأعظم أنه إنما أرسل هولاكو إلى غرب آسيا ليقضى على الخلافة العباسية ويعيد بيت المقدس بعد أن كان قد حررها صلاح الدين عام 583هـ،
فاعتبر هولاكو نفسه محررا للنصارى من المسلمين، وأرسل إلى الصليبين قبل أن يبدأ غزوه المسلمين يقول: "لدينا أعداداً كبيرة من المسيحيين من العبودية ومن الضرائب التى فرضها عليهم المسلمون ومعلنين ضرورة معاملة المسيحيين معاملة تليق بهم، فلا يعتدى عليهم ولا على تجارتهم أحد ونحن نصرح بأننا سنعيد بناء الكنائس التى خربها المسلمون"' ..
رعب التتار
دخل رعب التتار فى قلوب المسلمين إلا من رحم الله، إلى حد أن أحد التتار دخل بعض الأحيان فى سكة من سكك مدينة حيث وجد مائة رجل من المسلمين، فقتلهم كلهم وأتى على آخرهم دون أن يتجرأ أحد منهم لمقاومته.
وذات مرة دخلت امرأة تتارية بيتا متزينة بزى الرجال، وقتلت جميع أفراد الأسرة، وقد عرف أحد المسجونين الذى كان معها أنها امرأة فقتلها، وقد حدث بعض الأحيان أن تاتارياً أسر مسلماً وقال له ضع رأسك على هذا الحجر حتى آتى بالخنجر فأذبحك ، وخضع له المسلم ولم يسعه أن يبرح مكانه ذاك، ثم أتى التتارى بالخنجر من المدينة وذبحه به.
استولى الرعب والخوف على العالم الإسلامى من أقصاه إلى أقصاه، وغلب على الناس اليأس والتشاؤم، فكانوا يعتبرون التتار بلاء سماويا، ومقاومتهم مستحيلة، وانهزامهم فوق القياس، حتى سار المثل.
" إذا قيل لك أن التتار انهزموا فلا تصدق" [ص18 ، ص19 غارة التتار على العالم الإسلامى]
لم يكن فى وسع الإنسان أن يسد سيل المغول، فقد تغلبوا على جميع أخطار الصحارى والغابات، ولم يقف فى وجههم أى شئ من الجبال والبحار، وشدائد الطقوس والفصول، والقحط والأوبئة، ولم يكونوا يخافون أى خطر ولا مانع، ولا هناك قلعة ترد بأسهم .